الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
{والطور، وكتاب مسطور، في رق منشور، والبيت المعمور، والسقف المرفوع، والبحر المسجور، إن عذاب ربك لواقع، ما له من دافع} قوله تعالى}والطور}الطور اسم الجبل الذي كلم الله عليه موسى؛ أقسم الله به تشريفا له وتكريما وتذكيرا لما فيه من الآيات، وهو أحد جبال الجنة. وروى إسماعيل بن إسحاق قال: حدثنا إسماعيل بن أبي أويس، قال: حدثنا كثير بن عبدالله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده أنه قال: قلت: ومدين بالأرض المقدسة وهي قرية شعيب عليه السلام. وقيل: إن الطور كل جبل أنبت، وما لا ينبت فليس بطور؛ قاله ابن عباس. وقد مضى في }البقرة}مستوفى. قوله تعالى}وكتاب مسطور}أي مكتوب؛ يعني القرآن يقرؤه المومنون من المصاحف ويقرؤه الملائكة من اللوح المحفوظ؛ كما قال تعالى قلت: وفي هذا القول تجوز؛ لأنه عبر بالقلوب عن الرق. قال المبرد: الرق ما رقق من الجلد ليكتب فيه، والمنشور المبسوط. وكذا قال الجوهري في الصحاح، قال: والرق بالفتح ما يكتب فيه وهو جلد رقيق. ومنه قوله تعالى}في رق منشور}والرق أيضا العظيم من السلاحف. قال أبو عبيدة: وجمعه رقوق. والمعنى المراد ما قاله الفراء؛ والله أعلم. وكل صحيفة فهي رق لرقة حواشيها؛ ومنه قول المتلمس: وأما الرق بالكسر فهو الملك؛ يقال: عبد مرقوق. وحكى الماوردي عن ابن عباس: أن الرق بالفتح ما بين المشرق والمغرب. قوله تعالى}والبيت المعمور}قال علي وابن عباس وغيرهما: هو بيت في السماء حيال الكعبة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم يخرجون منه فلا يعودون إليه. قال علي رضي الله عنه: هو بيت في السماء السادسة. وقيل: في السماء الرابعة؛ قوله تعالى}والسقف المرفوع}يعني السماء سماها سقفا؛ لأنها للأرض كالسقف للبيت؛ بيانه يريد وعلا يطالع عينا مسجورة مملوءة. فيجوز أن يكون المملوء نارا فيكون كالقول المتقدم. وكذا قال الضحاك وشمر بن عطية ومحمد بن كعب والأخفش بأنه الموقد المحمي بمنزلة التنور المسجور. ومنه قيل: للمسعر مسجر؛ ودليل هذا التأويل قوله تعالى قلت: إليه يرجع معنى }فجرت}في أحد التأويلين؛ أي فجر عذبها في مالحها: والله أعلم. وسيأتي. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: المسجور المحبوس. قوله تعالى}إن عذاب ربك لواقع}هذا جواب القسم؛ أي واقع بالمشركين. قال جبير بن مطعم: قدمت المدينة لأسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر، فوافيته يقرأ في صلاة المغرب }والطور}إلى قوله}إن عذاب ربك لواقع. ما له من دافع}فكأنما صدع قلبي، فأسلمت خوفا من نزول العذاب، وما كنت أظن أن أقوم من مقامي حتى يقع بي العذاب. وقال هشام بن حسان: انطلقت أنا ومالك بن دينار إلى الحسن وعنده رجل يقرأ }والطور}حتى بلغ }إن عذاب ربك لواقع. ماله من دافع}فبكى الحسن وبكى أصحابه؛ فجعل مالك يضطرب حتى غشي عليه. ولما ولي بكار القضاء جاء إليه رجلان يختصمان فتوجهت على أحدهما اليمين، فرغب إلى الصلح بينهما، وأنه يعطي خصمه من عنده عوضا من يمينه فأبى إلا اليمين، فأحلفه بأول }والطور}إلى أن قال له قل }إن عذاب ربك لواقع}إن كنت كاذبا؛ فقالها فخرج فكسر من حينه. {يوم تمور السماء مورا، وتسير الجبال سيرا، فويل يومئذ للمكذبين، الذين هم في خوض يلعبون، يوم يدعون إلى نار جهنم دعا، هذه النار التي كنتم بها تكذبون، أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون، اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون} قوله تعالى}يوم تمور السماء مورا}العامل في يوم قوله}واقع}أي يقع العذاب بهم يوم القيامة وهو اليوم الذي تمور فيه السماء. قال أهل اللغة: مار الشيء يمور مورا، أي تحرك وجاء وذهب كما تتكفأ النخلة العيدانة، أي الطويلة، والتمور مثله. وقال الضحاك: يموج بعضها في بعض. مجاهد: تدور دورا. أبو عبيدة والأخفش: تكفأ، وأنشد للأعشى: وقيل تجري جريا. ومنه قول جرير: وقال ابن عباس: تمور السماء يومئذ بما فيها وتضطرب. وقيل: يدور أهلها فيها ويموج بعضهم في بعض. والمور أيضا الطريق. ومنه قول طرفة: والمور الموج. وناقة موارة اليد أي سريعة. والبعير يمور عضداه إذا ترددا في عرض جنبه، قال الشاعر: الملاط الجنب. وقولهم: لا أدري أغار أم مار؛ أي أتى غورا أم دار فرجع إلى نجد. والمور بالضم الغبار بالريح. وقيل: إن السماء ها هنا الفلك وموره اضطراب نظمه واختلاف سيره؛ قاله ابن بحر. }وتسير الجبال سيرا}قال مقاتل: تسير عن أماكنها حتى تستوي بالأرض. وقيل: تسير كسير السحاب اليوم في الدنيا؛ بيانه قوله تعالى}يوم يدَعُّون}}يوم}بدل من يومئذ. و}يدعون}معناه يدفعون إلى جهنم بشدة وعنف، يقال: دععته أدعه دعا أي دفعته، ومنه قوله تعالى قوله تعالى}أفسحر هذا}استفهام معناه التوبيخ والتقريع؛ أي يقال لهم}أفسحر هذا}الذي ترون الآن بأعينكم }أم أنتم لا تبصرون}وقيل}أم}بمعنى بل؛ أي بل كنتم لا تبصرون في الدنيا ولا تعقلون. }اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا}أي تقول لهم الخزنة ذوقوا حرها بالدخول فيها. }سواء عليكم}أي سواء كان لكم فيها صبر أو لم يكن فـ }سواء}خبره محذوف، أي سواء عليكم الجزع والصبر فلا ينفعكم شيء، كما أخبر عنهم أنهم يقولون {إن المتقين في جنات ونعيم، فاكهين بما آتاهم ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم، كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون، متكئين على سرر مصفوفة وزوجناهم بحور عين} قوله تعالى}إن المتقين في جنات ونعيم}لما ذكر حال الكفار ذكر حال المؤمنين أيضا }فاكهين}أي ذوي فاكهة كثيرة؛ يقال: رجل فاكه أي ذو فاكهة، كما يقال: لابن وتامر؛ أي ذو لبن وتمر؛ قال: أي ذو لبن وتمر. وقرأ الحسن وغيره}فكهين}بغير ألف ومعناه معجبين ناعمين في قول ابن عباس وغيره؛ يقال: فكه الرجل بالكسر فهو فكه إذا كان طيب النفس مزاحا. والفكه أيضا الأشر البطر. وفد مضى في }الدخان}القول في هذا. }بما آتاهم}أي أعطاهم }ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم}}كلوا واشربوا}أي يقال لهم ذلك. }هنيئا بما كنتم تعملون}الهنيء ما لا تنغيص فيه ولا نكد ولا كدر. قال الزجاج: أي ليهنئكم ما صرتم إليه }هنيئا}. وقيل: أي متعتم بنعيم الجنة إمتاعا هنيئا وقيل: أي كلوا واشربوا هنئتم }هنيئا}فهو صفة في موضع المصدر. }هنيئا}: أي حلالا. وقيل: لا أذى فيه ولا غائلة. وقيل}هنيئا}أي لا تموتون؛ فإن ما لا يبقى أو لا يبقى الإنسان معه منغص غير هنيء. قوله تعالى}متكئين على سرر}سرر جمع سرير وفي الكلام حذف تقديره: متكئين على نمارق سرر. }مصفوفة}قال ابن الأعرابي: أي موصولة بعضها إلى بعض حتى تصير صفا. وفي الأخبار أنها تصف في السماء بطول كذا وكذا؛ فإذا أراد العبد أن يجلس عليها تواضعت له؛ فإذا جلس عليها عادت إلى حالها. قال ابن عباس: هي سرر من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت، والسرير ما بين مكة وأيلة. }وزوجناهم بحور عين}أي قرناهم بهن. قال يونس بن حبيب: تقول العرب زوجته امرأة وتزوجت امرأة؛ وليس من كلام العرب تزوجت بامرأة. قال: وقول الله عز وجل}وزوجناهم بحور عين}أي قرناهم بهن؛ من قول الله تعالى {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين، وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون، يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم، ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون} قوله تعالى}والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم}قرأ العامة }واتبعتهم}بوصل الألف وتشديد التاء وفتح العين وإسكان التاء. وقرأ أبو عمرو }وأتبعناهم}بقطع الألف وإسكان التاء والعين ونون؛ أعتبارا بقوله} ألحقنا بهم}ليكون الكلام على نسق واحد. }ذريتهم}الأولى فقرأها بالجمع ابن عامر وأبو عمرو ويعقوب ورواها عن نافع إلا أن أبا عمرو كسر التاء على المفعول وضم باقيهم. وقرأ الباقون }ذريتهم}على التوحيد وضم التاء وهو المشهور عن نافع. فأما الثانية فقرأها نافع وابن عامر وأبو عمرو ويعقوب بكسر التاء على الجمع. الباقون }ذريتهم}على التوحيد وفتح التاء. واختلف في معناه؛ فقيل عن ابن عباس أربع روايات: الأولى أنه قال: إن الله ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة وإن كانوا دونه في العمل لتقربهم عينه، وتلا هذه الآية. ورواه مرفوعا النحاس في }الناسخ والمنسوخ}له قوله تعالى}وما ألتناهم من عملهم من شيء}أي ما نقصنا الأبناء من ثواب أعمالهم لقصر أعمارهم، وما نقصنا الآباء من ثواب أعمالهم شيئا بإلحاق الذريات بهم. والهاء والميم راجعان إلى قوله تعالى}والذين أمنوا}. وقال ابن زيد: المعنى }وأتبعتهم ذريتهم بإيمان}ألحقنا بالذرية أبناءهم الصغار الذين لم يبلغوا العمل؛ فالهاء والميم على، هذا القول للذرية. وقرأ ابن كثير }وما ألتناهم}بكسر اللام. وفتح الباقون. وعن أبي هريرة }آلتناهم}بالمد؛ قال ابن الأعرابي: الته يألته ألتا، وآلته يولته إيلاتا، ولاته يليته ليتا كلها إذا نقصه. وفي الصحاح: ولاته عن وجهه يلوته ويليته أي حبسه عن وجهه وصرفه، وكذلك ألاته عن وجهه فعل وأفعل بمعنى، ويقال أيضا: ما ألاته من عمله شيئا أي ما نقصه مثل ألته وقد مضى بـ }الحجرات}. قوله تعالى}كل امرئ بما كسب رهين}قيل: يرجع إلى أهل النار. قال ابن عباس: ارتهن أهل جهنم بأعمالهم وصار أهل الجنة إلى نعيمهم، ولهذا قال قوله تعالى}وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون}أي أكثرنا لهم من ذلك زيادة من الله، أمدهم بها غير الذي كان لهم. }يتنازعون فيها كأسا}أي يتناولها بعضهم من بعض وهو المؤمن وزوجاته وخدمه في الجنة. والكأس: إناء الخمر وكل إناء مملوء من شراب وغيره؛ فإذا فرغ لم يسم كأسا وشاهد التنازع والكأس في اللغة قول الأخطل: نازعته طيب الراح الشمول وقد صاح الدجاج وحانت وقعة الساري وقال امرؤ القيس: وقد مضى هذا في }والصافات}. }لا لغو فيها}أي في الكأس أي لا يجري بينهم لغو }ولا تأثيم}ولا ما فيه إثم. والتأثيم تفعيل من الإثم؛ أي تلك الكأس لا تجعلهم آثمين لأنه مباح لهم. وقيل}لا لغو فيها}أي في الجنة. قال ابن عطاء: أي لغو يكون في مجلس محله جنة عدن، وسقاتهم الملائكة، وشربهم على ذكر الله، وريحانهم وتحيتهم من عند الله، والقوم أضياف الله! }ولا تأثيم}أي ولا كذب؛ قاله ابن عباس. الضحاك: يعني لا يكذب بعضهم بعضا. وقرأ ابن كثير وابن محيصن وأبو عمرو}لا لغو فيها ولا تأثيم}بفتح آخره. الباقون بالرفع والتنوين. وقد مضى هذا في }البقرة}عند قوله تعالى قوله تعالى}ويطوف عليهم غلمان لهم}أي بالفواكه والتحف والطعام والشراب؛ ودليله {وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون، قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين، فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم، إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم} قوله تعالى}وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون}قال ابن عباس: إذا بعثوا من قبورهم سأل بعضهم بعضا. وقيل: في الجنة }يتساءلون}أي يتذاكرون ما كانوا فيه في الدنيا من التعب والخوف من العاقبة، ويحمدون الله تعالى على زوال الخوف عنهم. وقيل: يقول بعضهم لبعض بم صرت في هذه المنزلة الرفيعة؟ }قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين}أي قال كل مسؤول منهم لسائله}إنا كنا قبل}أي في الدنيا خائفين وجلين من عذاب الله. }فمن الله علينا}بالجنة والمغفرة. وقيل: بالتوفيق والهداية. }ووقانا عذاب السموم}قال الحسن}السموم}اسم من أسماء النار وطبقة من طباق جهنم. وقيل: هو النار كما تقول جهنم. وقيل: نار عذاب السموم. والسموم الريح الحارة تؤنث؛ يقال منه: سم يومنا فهو مسموم والجمع سمائم قال أبو عبيدة: السموم بالنهار وقد تكون بالليل، والحرور بالليل وقد تكون بالنهار؛ وقد تستعمل السموم في لفح البرد وهو في لفح الحر والشمس أكثر؛ قال الراجز: قوله تعالى}إنا كنا من قبل ندعوه}أي في الدنيا بأن يمن علينا بالمغفرة عن تقصيرنا. وقيل}ندعوه}أي نعبده. }إنه هو البر الرحيم}وقرأ نافع والكسائي }أنه}بفتح الهمزة؛ أي لأنه. الباقون بالكسر على الابتداء. و}البر}اللطيف؛ قاله ابن عباس. وعنه أيضا: أنه الصادق فيما وعد. وقاله ابن جريج. {فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون، أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون، قل تربصوا فإني معكم من المتربصين، أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون، أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون، فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين} قوله تعالى}فذكر}أي فذكر يا محمد قومك بالقرآن. }فما أنت بنعمة ربك}يعني برسالة ربك }بكاهن}تبتدع القول وتخبر بما في غد من غير وحي. }ولا مجنون}وهذا رد لقولهم في النبي صلى الله عليه وسلم؛ فعقبة بن أبي معيط قال: إنه مجنون، وشيبة بن ربيعة قال: إنه ساحر، وغيرهما قال: كاهن؛ فأكذبهم الله تعالى ورد عليهم. ثم قيل: إن معنى }فما أنت بنعمة ربك}القسم؛ أي وبنعمة الله ما أنت بكاهن ولا مجنون. وقيل: ليس قسما، وإنما هو كما تقول: ما أنت بحمد الله بجاهل؛ أي برأك الله من ذلك. قوله تعالى}أم يقولون شاعر}أي بل يقولون محمد شاعر. قال سيبويه: خوطب العباد بما جرى في كلامهم. قال أبو جعفر النحاس: وهذا كلام حسن إلا أنه غير مبين ولا مشروح؛ يريد سيبويه أن }أم}في كلام العرب لخروج من حديث إلى حديث؛ كما قال: فتم الكلام ثم خرج إلى شيء آخر فقال: فما جاء في كتاب الله تعالى من هذا فمعناه التقرير والتوبيخ والخروج من حديث إلى حديث، والنحويون يمثلونها ببل. }نتربص به ريب المنون}قال قتادة: قال قوم من الكفار تربصوا بمحمد الموت يكفيكموه كما كفى شاعر بني فلان. قال الضحاك: هؤلاء بنو عبد الدار نسبوه إلى أنه شاعر؛ أي يهلك عن قريب كما هلك من قبل من الشعراء، وأن أباه مات شابا فربما يموت كما مات أبوه. وقال الأخفش: نتربص به إلى ريب المنون فحذف حرف الجر، كما تقول: قصدت زيدا وقصدت إلى زيد. والمنون: الموت في قول ابن عباس. قال أبو الغول الطهوي: أي المنايا؛ يقول: إن الضرب يجمع بين قوم متفرقي الأمكنة لو أتتهم مناياهم في أماكنهم لأتتهم متفرقة، فاجتمعوا في موضع واحد فأتتهم المنايا مجتمعة. وقال السدي عن أبي مالك عن ابن عباس}ريب}في القرآن شك إلا مكانا واحدا في الطور }ريب المنون}يعني حوادث الأمور؛ وقال الشاعر: وقال مجاهد}ريب المنون}حوادث الدهر، والمنون هو الدهر؛ قال أبو ذؤيب: وقال الأعشى: قال الأصمعي: المنون والليل والنهار؛ وسميا بذلك لأنهما ينقصان الأعمار ويقطعان الآجال. وعنه: أنه قيل للدهر منون، لأنه يذهب بمنة الحيوان أي قوته وكذلك المنية. أبو عبيدة: قيل للدهر منون؛ لأنه مضعف، من قولهم حبل منين أي ضعيف، والمنين الغبار الضعيف. قال الفراء: والمنون مؤنثة وتكون واحدا وجمعا. الأصمعي: المنون واحد لا جماعة له. الأخفش: هو جماعة لا واحد له، والمنون يذكر ويؤنث؛ فمن ذكره جعله الدهر أو الموت، ومن أنثه فعلى الحمل على المعنى كأنه أراد المنية. قوله تعالى}قل تربصوا}أي قل لهم يا محمد تربصوا أي انتظروا. }فإني معكم من المتربصين}أي من المنتظرين بكم العذاب؛ فعذبوا يوم بدر بالسيف. قوله تعالى}أم تأمرهم أحلامهم}أي عقولهم }بهذا}أي بالكذب عليك. }أم هم قوم طاغون}أي أم طغوا بغير عقول. وقيل}أم}بمعنى بل؛ أي بل كفروا طغيانا وإن ظهر لهم الحق. وقيل لعمرو بن العاص: ما بال قومك لم يؤمنوا وقد وصفهم الله بالعقل؟ فقال: تلك عقول كادها الله؛ أي لم يصحبها بالتوفيق. وقيل}أحلامهم}أي أذهانهم؛ لأن العقل لا يعطى للكافر ولو كان له عقل لآمن. وإنما يعطى الكافر الذهن فصار عليه حجة. والذهن يقبل العلم جملة، والعقل يميز العلم ويقدر المقادير لحدود الأمر والنهي. قوله تعالى}أم يقولون تقوله}أي افتعله وافتراه، يعني القرآن. والتقول تكلف القول، وإنما يستعمل في الكذب في غالب الأمر. ويقال قولتني ما لم أقل! وأقولتني ما لم أقل؛ أي آدعيته علي. وتقول عليه أي كذب عليه. واقتال عليه تحكم قال: فأما الأولى للإنكار والثانية للإيجاب أي ليس كما يقولون. }بل لا يؤمنون}جحودا واستكبارا. }فليأتوا بحديث مثله}أي بقرآن يشبهه من تلقاء أنفسهم }إن كانوا صادقين}في أن محمدا افتراه. وقرأ الجحدري }فليأتوا بحديث مثله}بالإضافة. والهاء في }مثله}للنبي صلى الله عليه وسلم، وأضيف الحديث الذي يراد به القرآن إليه لأنه المبعوث به. والهاء على قراءة الجماعة للقرآن. {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون، أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون، أم عندهم خزائن ربك أم هم المصيطرون، أم لهم سلم يستمعون فيه فليأت مستمعهم بسلطان مبين، أم له البنات ولكم البنون، أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون، أم عندهم الغيب فهم يكتبون، أم يريدون كيدا فالذين كفروا هم المكيدون، أم لهم إله غير الله سبحان الله عما يشركون} قوله تعالى}أم خلقوا من غير شيء}}أم}صلة زائدة والتقدير أخلقوا من غير شيء. قال ابن عباس: من غير رب خلقهم وقدرهم. وقيل: من غير أم ولا أب؛ فهم كالجماد لا يعقلون ولا تقوم لله عليهم حجة؛ ليسوا كذلك! أليس قد خلقوا من نطفة وعلقة ومضغة؟ قاله ابن عطاء. وقال ابن كيسان: أم خلقوا عبثا وتركوا سدى }من غير شيء}أي لغير شيء فـ }من}بمعنى اللام. }أم هم الخالقون}أي أيقولون إنهم خلقوا أنفسهم فهم لا يأتمرون لأمر الله وهم لا يقولون ذلك، وإذا أقروا أن ثم خالقا غيرهم فما الذي يمنعهم من الإقرار له بالعبادة دون الأصنام، ومن الإقرار بأنه قادر على البعث. }أم خلقوا السماوات والأرض}أي ليس الأمر كذلك فإنهم لم يخلقوا شيئا }بل لا يوقنون}بالحق }أم عندهم خزائن ربك}أم عندهم ذلك فيستغنوا عن الله ويعرضوا عن أمره. وقال ابن عباس: خزائن ربك المطر والرزق. وقيل: مفاتيح الرحمة. وقال عكرمة: النبوة. أي أفبأيديهم مفاتيح ربك بالرسالة يضعونها حيث شاؤوا. وضرب المثل بالخزائن؛ لأن الخزانة بيت يهيأ لجمع أنواع مختلفة من الذخائر؛ ومقدورات الرب كالخزائن التي فيها من كل الأجناس فلا نهاية لها. }أم هم المسيطرون}قال ابن عباس: المسلطون الجبارون. وعنه أيضا: المبطلون. وقاله الضحاك. وعن ابن عباس أيضا: أم هم المتولون. عطاء: أم هم أرباب قاهرون. قال عطاء: يقال تسيطرت علي أي أتخذتني خولا لك. وقال أبو عبيدة. وفي الصحاح: المسيطر والمصيطر المسلط على الشيء ليشرف عليه ومتعهد أحواله ويكتب عمله، وأصله من السطر؛ لأن الكتاب يسطر والذي يفعله مسطر ومسيطر. يقال سيطرت علينا. ابن بحر}أم هم المسيطرون}أي هم الحفظة؛ مأخوذ من تسطير الكتاب الذي يحفظ ما كتب فيه؛ فصار المسيطر ها هنا حافظا ما كتبه الله في اللوح المحفوظ. وفيه ثلاث لغات: الصاد وبها قرأت العامة، والسين وهي قراءة ابن محيصن وحميد ومجاهد وقنبل وهشام وأبي حيوة، وبإشمام الصاد الزاي وهي قراءة حمزة كما تقدم في قوله تعالى}أم لهم سلم}أي أيدعون أن لهم مرتقى إلى السماء ومصعدا وسببا }يستمعون فيه}أي عليه الأخبار ويصلون به إلى علم الغيب، كما يصل إليه محمد صلى الله عليه وسلم بطريق الوحي. }فليأت مستمعهم بسلطان مبين}أي بحجة بينة أن هذا الذي هم عليه حق. والسلم واحد السلالم التي يرتقى عليها. وربما سمي الغرز بذلك؛ قال أبو الربيس الثعلبي يصف ناقته: وقال زهير: وقال آخر: وقال ابن مقبل في الجمع: الأحجاء النواحي مثل الأرجاء واحدها حجا ورجا مقصور. ويروى: أعناء البلاد، والأعناء أيضا الجوانب والنواحي واحدها عنو بالكسر. وقال ابن الأعرابي: واحدها عنا مقصور. وجاءنا أعناء من الناس واحدهم عنو بالكسر، وهم قوم من قبائل شتى. }يستمعون فيه}أي عليه؛ كقوله تعالى قوله تعالى}أم له البنات ولكم البنون}سفه أحلامهم توبيخا لهم وتقريعا. أي أتضيفون إلى الله البنات مع أنفتكم منهن، ومن كان عقله هكذا فلا يستبعد منه إنكار البعث. }أم تسألهم أجرا}أي على تبليغ الرسالة. }فهم من مغرم مثقلون}أي فهم من المغرم الذي تطلبهم به }مثقلون}مجهدون لما كلفتهم به. قوله تعالى}أم عندهم الغيب فهم يكتبون}أي يكتبون للناس ما أرادوه من علم الغيوب. وقيل: أي أم عندهم علم ما غاب عن الناس حتى علموا أن ما أخبرهم به الرسول من أم القيامة والجنة والنار والبعث باطل. وقال قتادة: لما قالوا نتربص به ريب المنون قال الله تعالى}أم عندهم الغيب}حتى علموا متى يموت محمدا أو إلى ما يؤول إليه أمره. وقال ابن عباس: أم عندهم اللوح المحفوظ فهم يكتبون ما فيه ويخبرون الناس بما فيه. وقال القتبي: يكتبون يحكمون والكتاب الحكم؛ ومنه قوله تعالى قوله تعالى}أم يريدون كيدا}أي مكرا بك في دار الندوة. }فالذين كفروا هم المكيدون}أي الممكور بهم {وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم، فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون، يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا ولا هم ينصرون} قوله تعالى}وإن يروا كسفا من السماء ساقطا}قال ذلك جوابا لقولهم بعضه فوق بعض سقط علينا وليس سماء؛ وهذا فعل المعاند أو فعل من استولى عليه التقليد، وكان في المشركين القسمان. والكسف جمع كسفة وهي القطعة من الشيء؛ يقال: أعطني كسفة من ثوبك، ويقال في جمعها أيضا: كسف. ويقال: الكسف والكسفة واحد. وقال الأخفش: من قرأ كسفا جعله واحدا، ومن قرأ }كسفا}جعله جمعا. وقد تقدم القول في هذا في }الإسراء}وغيرها والحمد لله. قوله تعالى}فذرهم}منسوخ بآية السيف. }حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون}بفتح الياء قراءة العامة، وقرأ ابن عامر وعاصم بضمها. قال الفراء: هما لغتان صعق وصعق مثل سعد وسعد. قال قتادة: يوم يموتون. وقيل: هو يوم بدر. وقيل: يوم النفخة الأولى. وقيل: يوم القيامة يأتيهم فيه من العذاب ما يزيل عقولهم. وقيل}يصعقون}بضم الياء من أصعقه الله. }يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا}أي ما كادوا به النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا. }ولا هم ينصرون}من الله. و}يوم}منصوب على البدل من }يومهم الذي فيه يصعقون}. {وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون، واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا وسبح بحمد ربك حين تقوم، ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم} قوله تعالى}وإن للذين ظلموا}أي كفروا }عذابا دون ذلك}قيل: قبل موتهم. ابن زيد: مصائب الدنيا من الأوجاع والأسقام والبلايا وذهاب الأموال والأولاد. مجاهد: هو الجوع والجهد سبع سنين. ابن عباس: هو القتل. عنه: عذاب القبر. وقاله البراء بن عازب وعلي رضي الله عنهم. فـ }دون}بمعنى غير. وقيل: عذابا أخف من عذاب الآخرة. }ولكن أكثرهم لا يعلمون}أن العذاب نازل بهم وقيل}ولكن أكثرهم لا يعلمون}ما يصيرون إليه. قوله تعالى}واصبر لحكم ربك}قيل: لقضاء ربك فيما حملك من رسالته. وقيل: لبلائه فيما ابتلاك به من قومك؛ ثم نسخ بآية السيف. }فإنك بأعيننا}أي بمرأى ومنظر منا نرى ونسمع ما تقول وتفعل. وقيل: بحيث نراك ونحفظك ونحوطك ونحرسك ونرعاك. والمعنى واحد. ومنه قوله تعالى لموسى عليه السلام}ولتصنع على عيني}أي بحفظي وحراستي وقد تقدم. قوله تعالى}وسبح بحمد ربك حين تقوم}اختلف في تأويل قوله}حين تقوم}فقال عون بن مالك وابن مسعود وعطاء وسعيد بن جبير وسفيان الثوري وأبو الأحوص: يسبح الله حين يقوم من مجلسه؛ فيقول: سبحان الله وبحمده، أوسبحانك اللهم وبحمدك؛ فإن كان المجلس خيرا آزددت ثناء حسنا، وإن كان غير ذلك كان كفارة له؛ ودليل هذا التأويل ما قوله تعالى}ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم}تقدم في }ق}مستوفى عند قوله تعالى
|